الثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجيء ربه كما خلقه أول مرة ، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، ولكن بالحسنات والسيئات ، فإذا كانت هذه بداية العبد وما حوله ونهايته ، فكيف يفرح بموجود ، أو يأسي على مفقود ، ففكره في مبدئه ومعاده ، من أعظم علاج هذا الداء .
3- ومن علاج المصائب أن يعلم العبد علم اليقين ، أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، قال تعالى : " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور " [ الحديد ] .
4- ومن علاجها : أن ينظر إلى ما أصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، وادخر له إن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة ، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي ، فربما أصيب بعض الناس بفقد أحد أبنائه ، وهذه مصيبة ولا ريب ، لكن لو تدبر أن الله تعالى قد أبقى له بقية الأبناء لصبر وشكر الله على بقاء البقية الباقية منهم .
5- ومن علاجها : أن يطفىء نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة ، وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى ، إما بفوات محبوب أو حصول مكروه ، وأن شرور الدنيا أحلام نوم ، أو كظل زائل ، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً ، وإن سرت يوماً ساءت دهراً ، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً ، وما ملأت داراً خيرة إلا ملأتها عبرة ، ولا سرته بيوم سرور ، إلا خبأت له يوم شرور ، قال ابن مسعود رضى الله عنه : لكل فرحة ترحة ، وما ملىء بيت فرحاً إلا ملىء ترحاً ، وقال ابن سرين رحمه الله : ما كان ضحك قط ، إلا كان من بعده بكاء .
6- ومن علاجها ، أن يعلم أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها وهو في الحقيقة من تزايد المرض .
7- ومن علاجها ، أن يعلم أن فوات ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظم من المصبية في الحقيقة .
8- ومن علاجها ، أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويغضب ربه ، ويسر شيطانه ، ويحبط أجره ، ويضعف نفسه ، وإذا صبر واحتسب ، أنضى شيطانه ، ورده خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسر صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه ، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم ، لا لطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والثبور ، والسخط على المقدور .
9- ومن علاجها ، أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة ، أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه ، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة ، على حمده لربه ، واسترجاعه ، فلينظر أي المصيبتين أعظم : مصيبة العاجلة ، أو المصيبة بفوات بيت الحمد في جنة الخلد ، وفي الترمذي عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ " ، وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا ، لوردنا القيامة مفاليس .
10- ومن علاجها ، أن يروح قلبه بروح رجاء الخلف من الله ، فإنه من كل شيء عوض ، إلا الله فما منه عوض ، كما قيل :
من كل شيء إذا ضيعته عوض * وما من الله إن ضيعته عوض .
11- ومن علاجها ، أن يعلم أن حظه من المصيبة ، ما تحدثه له ، فمن رضى فله الرضى ، ومن سخط فله السخط ، قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ " [ أخرجه الترمذ وأبو داود وابن ماجة وأحمد ، وقَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ] .
فحظ العبد من المصيبة ما أحدثته له ، فاختر خير الحظوظ أو شرها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً ، كتب في ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً في ترك واجب ، أو فعل محرم ، كتب في ديوان المفرطين ، وإن أحدثت له شكاية ، وعدم صبر ، كتب في ديوان المغبونين ، وإن أحدثت له اعتراضاً على الله ، وقدحاً في حكمته ، فقد قرع باب الزندقه أو ولجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كتب في ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرضى عن الله ، كتب في ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمد والشكر ، كتب في ديوان الشاكرين ، وكان تحت لواء الحمد مع الحامدين ، وإن أحدثت له محبة واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كتب في ديوان المحبين المخلصين .
12- ومن علاجها ، أن يعلم أنه في الجزع غايته ، فآخرة أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غير محمود ولا مثاب .
13- ومن علاجها ، أن المصاب بالمصيبة ، إذا رأى مصيبة غيره ربما هانت عليه مصيبته .
14- ومن علاجها ، وهو أعظم سبل علاج حر المصيبة ، التزام أمر الله تعالى ، الذي أمر عباده بالصبر على الفتن والمصائب ، ووعدهم على ذلك بعظيم الأجر .
وفي ختام هذا الموضوع ، أسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً الصبر في مواطن الفتن ، وأن يلهمنا طاعته في كل أحوالنا ، وان يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد .